لا يملك من راقب ما حدث في سلطنة عمان خلال عامين إلا أن يقف وقفة إعجاب وإبهار بقيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- الذي استطاع أن يتعامل مع عدة أزمات مركبة وخطيرة في وقت كاد بعضها أن يؤثر على كيان الدولة، إلا أن جلالته جنّب عُمان التأثيرات الأسوأ لتلك الأزمات التي مرت بالعالم أجمع ونال عُمان منها النصيب الكبير. وبفضل تلك القيادة وتعاون العمانيين معها فإن المشهد في عُمان أفضل بكثير جدا مما كان عليه مع بداية العام الجاري. ولفتت تلك القيادة الحكيمة التي تتحرك وفق الممكنات المنطقية أنظار الجميع بكثير من الإعجاب خاصة أولئك الذين كانوا ينظرون للمشهد من خارج دائرة التأثير والتأثر.
لم تكن أزمة جائحة فيروس كورونا، رغم خطورتها، الوحيدة التي أثرت بشكل مباشر على سلطنة عمان بل كانت هناك أزمة سبقت هذه الأزمة بخمس سنوات هي الأزمة المالية الناتجة عن انهيار أسعار النفط، وقد تعاظمت هذه الأزمة وسط جائحة فيروس كورونا، ثم إن هذه الأزمة نتج عنها أزمات أخرى خطرة جدا كان أبرزها أزمة العجز المالي وأزمة الديون وتراجع التصنيف الائتماني للسلطنة وأزمة الباحثين عن عمل التي نتج عنها مسيرات شعبية في مايو الماضي. وكان هناك أزمة ناتجة عن كوارث طبيعية تمثلت في الإعصار المداري «شاهين» الذي نتج عنه دمار كبير لحق بمحافظتي شمال وجنوب الباطنة، وقبل هذا كان هناك إعصار أوشك أن يؤثر بشكل مباشر وخطير على محافظة ظفار قبل أن يتلاشى بعيدا عنها لكن بعد أن تسبب في التعبئة العامة لجميع القطاعات المعنية بالطوارئ في السلطنة.
كانت الأشهر الماضية، إذا، أشهر أزمات حقيقية، وكانت أيام تلك الأشهر أيام عمل ضخم جدا، وأمام تلك الأزمات تكشفت قدرة القيادة على إدارة دولة بحجم سلطنة عُمان، وليس المقصود بالحجم هنا الحجم الجغرافي فقط، ولكن الحجم التاريخي والحضاري والامتداد الزمني فيهما، وللحجم التاريخي والبعد الحضاري اشتراطاتهما الخاصة التي لا يمكن التفريط فيهما وإلا فقدت هذه الأبعاد قيمتها وتساوى ارتباطها بعمان بغيابهما عن أي دولة ظهرت حديثا في المشهد. واستطاعت هذه الأزمات أن تبني تصورا حقيقيا عن قيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان المعظم لعمان الجديدة.
وبالعودة إلى المشهد الأول فجر يوم 11 يناير من العام الماضي حينما كان العالم يرقب تحولا تاريخيا، ومصيريا يحدث في عمان بتولي حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- عرش عُمان خلفا للسلطان الراحل قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه-. أبهر ذلك الانتقال السلس للسلطة العالم أجمع وظهرت للجميع قوة عُمان سياسيا ومجتمعيا وهذا انعكاس لا يخفى لمكانتها التاريخية والحضارية.
لكن الأقدار كانت تخبئ الكثير من التفاصيل القادمة.
لم يكن أكثر المتشائمين يذهب بهم التفكير للاعتقاد أن أزمة جائحة كورونا يمكن أن تعصف بالعالم صحيا واقتصاديا كما حدث بدءا من مطلع العام الماضي وحتى اليوم. وسط ذلك المشهد المتلاطم بالأحداث التي بدأت معالمها في التشكل وما تخبئه من أزمات ظهر جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم يوم 23 فبراير 2020 وهو يخاطب العمانيين بأهم خطاباته حتى الآن.. في ذلك الخطاب بدا السلطان قارئا دقيقا للوضع العام في السلطنة ولديه رؤية واضحة لما عليه فعله حيال كل التحديات التي عليه مواجهتها. ويعود الكثير من الفضل في تلك الرؤية وذلك الوضوح إلى أن جلالته كان يقود بنفسه فريق عمل رؤية «عمان 2040» بكل ما تحمله من طموحات وتعرفه من تحديات. في ذلك الخطاب قال السلطان بكثير من الوضوح: «إننا عازمون على اتخاذ الإجراءات اللازمة لإعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، وتحديث منظومة التشريعات والقوانين، وآليات وبرامج العمل وإعلاء قيمه ومبادئه وتبني أحدث أساليبه وتبسيط الإجراءات وحوكمة الأداء والنزاهة والمساءلة والمحاسبة لضمان المواءمة الكاملة والانسجام التام مع متطلبات رؤيتنا وأهدافها، وسنعمل على مراجعة أعمال الشركات الحكومية مراجعة شاملة بهدف تطوير أدائها ورفع كفاءتها وتمكينها من الإسهام الفاعل في المنظومة الاقتصادية، وسنهتم بدراسة آليات صنع القرار الحكومي بهدف تطويرها بما يخدم المصلحة الوطنية العليا، وسنولي هذه الجوانب كل العناية والمتابعة والدعم، كما إننا سنحرص على توجيه مواردنا المالية التوجيه الأمثل بما يضمن خفض المديونية وزيادة الدخل، وسنوجه الحكومة بكافة قطاعاتها لانتهاج إدارة كفؤة وفاعلة تضع تحقيق التوازن المالي وتعزيز التنويع الاقتصادي واستدامة الاقتصاد الوطني في أعلى سلم أولوياتها، وأن تعمل على تطوير الأنظمة والقوانين ذات الصلة بكل هذه الجوانب بمشيئة الله». كان هذا هو الجزء الأهم من الخطاب لأنه يتعلق بجوهر بناء الدولة والمتمثل في إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، وتحديث منظومة التشريعات والقوانين، آليات وبرامج عمل جديدة، حوكمة الأداء والنزاهة والمساءلة والمحاسبة، حوكمة الشركات الحكومية، دراسة آليات صنع القرار الحكومي..إلخ. وهذه التفاصيل هي جوهر بناء الدولة، ما يعني أن السلطان وعد بدولة جديدة تتواكب مع تطلعات العمانيين ومتطلبات المرحلة.
ورغم كل التحديات إلا أن هذه الرؤية التي طرحها جلالة السلطان تحقق جزؤها الأكبر خلال الأشهر الماضية. فقد أعيد هيكلة الجهاز الإدارية للدولة وبشكل يتوافق ومتطلبات المرحلة، وتبعا لذلك تم إعادة تعيين مجلس وزراء جديد بوجوه شابة ومتخصصة فيما يمكن أن يعرف بحكومة «تكنوقراط» وهي أول حكومة «تكنوقراط» متكاملة في تاريخ عُمان. وعلى المستوى الآخر بدأت الدولة في مراجعة منظومة القوانين والتشريعات وحوكمة الأداء. وقبل أيام فقط وجّه جلالة السلطان بإنشاء وحدة تتبع مجلس الوزراء معنية بدعم واتخاذ القرار.
كانت التحديات التي واجهت هذه المرحلة المهمة من تاريخ عمان كبيرة جدا، وكان أبرزها التحدي الصحي والتحدي المالي وفي ظل جائحة صحية قاتلة لم يكن سهلا للمؤسسات التحرك نحو الأمام، كان الأمر تحديا كبيرا، وكانت الإمكانات المادية قليلة جدا.
كان عجر الميزانية التراكمي قد تجاوز 20 مليارا، وهو عجز ضخم جدا وينذر بخطر جسيم، وكان الدين العام قد بلغ 20 مليار ريال تضاف إليه خدمة دين سنوية تبلغ مليار ريال. وأمام هذا الوضع تراجع التصنيف الائتماني للسلطنة في جميع مؤسسات التصنيف المعتمدة. وأصبحت فكرة الحصول على قروض جديدة غير مضمونة وإن حدثت فبفوائد ضخمة جدا. لم يكن أمام جلالة السلطان هيثم والظروف كما هي إلا تبني خطة «التوازن المالي» وهي فكرة كان جلالته قد أشار لها في خطابه في شهر فبراير 2020م.
لم يكن هناك خيارات أخرى مجدية أمام هذا الوضع الذي ظل يتفاقم بسبب جائحة كورونا والتدهور الدراماتيكي لأسعار النفط التي وصلت إلى أقل من 18 دولارا للبرميل الواحد. كان هناك خيار تخفيض قيمة الريال العماني لكنه كان خيارا انتحاريا سيتسبب بكوارث اقتصادية، وكان الخيار الذهاب إلى البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لكن هذا الخيار أكثر كارثية ويتنافى مع المكانة التاريخية لعُمان لأنه سيرهن قرارها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي إلى البنك الدولي.
كل الخيارات كانت صعبة لكن خطة التوازن المالي كانت الخيار الأفضل بالنظر إلى الصعوبات المطروحة. ومن أجل تخفيف الأعباء المالية التي فرضتها خطة التوازن المالية فإن جلالة السلطان المعظم وجّه بالإسراع في بناء نظام وطني متكامل للحماية الاجتماعية، بهدف ضمان حماية ذوي
الدخل المحدود وأسر الضمان الاجتماعي من أية تأثيرات متوقعة جراء تطبيق ما تضمنته
الخطة من تدابير وإجراءات. ولاحقا تفضل جلالة السلطان وأمر بتثبيت أسعار الوقود في وقت يتوقع أن ترتفع الأسعار بشكل كبير جراء ارتفاع أسعار النفط في الأسواق العالمية.
وسجلت السلطنة تراجعا كبيرا في عجز ميزانيتها المعلن مطلع العام الجاري، فقد تراجع عجز الميزانية بنسبة 46% حتى نهاية أغسطس الماضي وهو مرشح إلى تراجع أكبر مع نهاية العام مدفوعا بحزمة الإجراءات المصاحبة لخطة التوازن المالي وكذلك ارتفاع أسعار النفط. كما عدلت بعض وكالات الائتمان من تصنيفها للسلطنة، حيث عدلت وكالة ستاندرد آند بورز تصنيف السلطنة من «مستقرة» إلى «إيجابية» وعدلت وكالة «موديرز» تصنيف السلطنة من «سلبية» إلى «مستقرة». وتراجعت ضغوطات السيولة النقدية 60%، وتشير التقارير إلى تراجع الدين العام إلى 60% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2024 وتشير التقارير نفسها إلى تراجع الاحتياجات التمويلية السنوية للسلطنة بشكل كبير. وأمام كل هذه الإيجابيات التي تحققت خلال عام واحد فقط فإن جلالة السلطان وجّه بترقية بعض الموظفين في الدولة من الذين تعود أقدمية ترقيتهم إلى عام 2011. وبالإمكانيات التي أدار بها جلالة السلطان المعظم الأزمة المالية أدار، أعزه الله، أزمة جائحة فيروس كورونا التي وصلت فيها السلطنة الآن إلى درجة عالية من التعافي. وأكد علماء الأوبئة أن السر في نجاح الدول في تجاوز أزمة الوباء يكمن في «القيادة».
كانت للوباء آثار صحية وآثار اقتصادية بسبب الإغلاقات التي عمت العالم وأثرت في سلطنة عمان على الكثير من المؤسسات والأفراد ولكن حزم القرارات الإنقاذية التي أعلنت عنها السلطنة استطاعت أن تخفف بعض الأعباء التي ترتبت على الجائحة في الجانب الاقتصادي، أما الجانب الصحي فقد بذلت السلطنة جهدا كبيرا جدا من أجل أن يتجاوز المواطنون والمقيمون على أرض السلطنة الأزمة.. واليوم فإن الحياة عادت إلى «شبه» طبيعتها بعد أن وصلت المؤشرات الوبائية إلى أفضل أوقاتها منذ بدء الجائحة.
ما حدث أيضا خلال الإعصار المداري شاهين يثبت أن عمان قيادة وشعبا على مستوى عال من القوة والصلابة وأن الشدائد تساهم في صناعة قوتهم وتضيف إلى تاريخهم.
كثرت الأزمات والتحديات خلال عامين، لكن في مقابل كل ذلك ظهرت صورة القيادة الحكيمة لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم، تلك الصورة التي تبعث في نفوس العمانيين الكثير من الطمأنينة والكثير من الثقة أن عمان دائما وأبدا في أيادٍ أمينة، وقادرة على الإبحار بها نحو المستقبل.